مقال /نور الهدى باشراحيل
في زمن تتكاثر فيه كل الأشياء الضجيج، الخيارات، العلاقات، والمعلومات.. يبدو أن القيمة الحقيقية باتت تكمن في نقيض ذلك تمامًا (في القليل).نحن لا نعيش فقط في عالم مزدحم، بل في ثقافة تحتفي بالكثرة على حساب المعنى. ومع ذلك، فإن أكثر من ينجو، أكثر من يتنفس،وأكثر من يفهم ذاته، هم أولئك الذين تعلّموا فنّ التخفف، وأدركوا أن الأقل هو الأكثر.المقصود هنا ليس الزهد المادي فحسب، بل الوعي العميق بما نحتاجه فعلًا.في اللباس مثلاً، كلما بسُط الشكل، ارتفعت الأناقة..وهذا ليس لأن البساطة أجمل فقط، بل لأنها تقول ما تريد دون أن تصرخ.وفي العلاقات أيضاً..نكتشف بعد عدد لا بأس به من الخذلان، أن الوفاء لا يأتي من الكثرة، بل من القِلة الصادقة، وأن دائرة الأمان أحيانًا لا تتجاوز شخصين، لكنها تسندك كأنها قبيلة.أما في الحديث، فالكلمات القليلة الصادقة، حين تُقال في وقتها، تُحدث أثرًا لا يصنعه خطيب في ساعة كاملة.القوة ليست في عدد الكلمات، بل في وزنها.وكما يقول الشاعر الياباني باشو: “القصيدة الجيدة هي التي تترك نصف المعنى في قلب القارئ”.التخفف ليس حالة انسحابية أو انغلاق، بل هو موقف وجودي.أن تختار ما يدخل حياتك، وتفلتر ما يخرج منها، وتتحمّل مسؤولية ذلك الاختيار.أن تتوقف عن مطاردة كل شيء، لأنك ببساطة لم تعد تؤمن أن الكثرة تعني السعادة.فن التخفف ليس عزلة، بل عودة إلى الذات،ليس نفورًا من العالم، بل مصالحة معه، على شروطك أنت..أن يكون عندك القليل، وتعرف أنه يكفيك، تلك رفاهية لم تعد شائعة.وقبل أن تنتهي من قراءة ما كتبت، حاول أن تطرح على نفسك أسئلة تحتاجها لتحديد موقفك من القصة..هل نحتاج أن نعيش أكثر، أم أن نعيش أعمق؟هل بات الحضور الهادئ، الانتقاء الدقيق، والصمت الموزون أعلى أشكال الحكمة في عصر الثرثرة والازدحام؟ربما حان الوقت لنتعلّم كلٌ بطريقته،أن نكف عن مراكمة الأشياء، ونبدأ في مراكمة المعنى.