مقال /نور الهدى باشراحيل
في كل زمان يظن الناس أنهم يعيشون تحوّلًا جوهريًا في الأخلاق، في السلوك، في طباع البشر.تترددُ أسئلة كثيرة، لعل أهمها: "ما الذي جرى لنا؟ لماذا تغيّر الناس؟" لكن ماذا لو أن الناس لم يتغيّروا بقدر ما كُشف عنهم الغطاء؟ ماذا لو أن ما نراه اليوم ليس تحوّلًا، بل انكشافًا؟نعيش اليوم في زمن تُسلَّط فيه الأضواء على كل شيء.. العيوب، النوايا، الهشاشة، وحتى الشر الكامن خلف الأقنعة.
لقد جعلت وسائل التواصل الاجتماعي من الإنسان كتابًا مفتوحًا، ليس للآخرين فقط، بل لنفسه أيضًا. صرنا نرى أنفسنا في المرآة الرقمية بلا تزييف، وأحيانًا بلا رحمة.
في السابق، كانت الحياة تمنح الإنسان مساحات للستر، للصمت، للخصوصية.كانت الأخطاء تُرتكب لكن لا تُذاع، كانت الخواطر تُحاك، لكنها لا تُدوّن ولا تُشارك مع الغرباء.. أما اليوم، فقد أصبح التعبير اللحظي جزءًا من الوجود الاجتماعي، وكأن الصمت جريمة، أو الخصوصية ترف لا يليق بالعصر.لكن هذا الانكشاف ليس شرًا مطلقًا، كما أنه ليس خيرًا خالصًا، إنه حالة إنسانية مركّبة..من جهة، يكشف الزيف، ويمنحنا وعيًا أعمق بالواقع وبالذات، ومن جهة أخرى، يُعرّينا من الحذر، من التأمل، من الهامش الآمن بين داخلنا وعالمنا.
وهنا يُطرح السؤال الحقيقي: هل تغير الإنسان في جوهره؟ أم أن الأطر الأخلاقية والاجتماعية التي كانت تكتم طباعه بدأت تتفكك، فظهر ما كان خفيًا؟يقول المفكر الألماني بيتر سلوتردايك يقول: "نحن لا نعيش في زمن سقوط القيم، بل في زمن شفافيتها."، وهذا ما يضعنا أمام حقيقة مفادها أن الإنسان لم يفسد فجأة، بل أصبح مرئيًا بدرجة لم يعهدها من قبل.
لقد كنا دائمًا نحمل التناقض، الخير والشر، القيم والمصالح، لكن ما تغيّر هو أن الرقابة الخارجية أصبحت أضعف، بينما الرقابة الذاتية لم تنضج بما يكفي لتعويضها. ومع تزايد حضور الفرد في الفضاء الرقمي، أصبح كل فعل وكل رأي عرضة للعرض والحكم والتأويل.
فهل نحن أسوأ مما كنا؟ أم أننا فقط نُعرض أكثر مما ينبغي؟ وهل نحتاج لأن نُغيّر ذواتنا، أم أن نُعيد بناء حُجُبنا، نُهذّب مكاشفاتنا، ونستعيد شيئًا من اتزاننا القديم؟في زمن المكاشفة الشاملة، يصبح النُبل في أن نختار ما نُظهر، لا أن نُظهر كل شيء.
وتصبح الحكمة في أن نحفظ للداخل قيمته، لا أن نفرغه بحثًا عن التصفيق.نحن لم نتغير تمامًا. نحن فقط.. أصبحنا مكشوفين.